لماذا إيزيس؟
تدفعنا السمعة المهيبة التي تتمتع بها مصر القديمة إلى البحث والتعمق في كل ما كان يدور حولها، من طبيعة وثقافة وعلم ومعتقدات واللغة ووسائل التعايش، مكونين معًا حضارة يتحاكى بها الجميع، ويُنظر إليها بالفخر والعزة من أبنائها وذويها، وينبهر بها العجم.. فتكون بذلك أشهر وأهم وأرقى حضارات التاريخ القديم.
ما زالت اكتشافات هذه الحضارة مستمرة حتى اليوم.. فتارة برديات، وتارة تماثيل أثرية، وأخرى منقوشات حجرية تظهر ما ظلت تخفيه تلك الحضارة لآلاف السنين، وتلك الاكتشافات وجد الكثير منها بفضل أحد أشهر العلوم على الإطلاق “علم المصريات” الذي تفنى فيه حياة المئات من البشر وهم يبحثون عن اكتشاف واحد ليؤخر ذكراهم ويحفظ جهودهم.
كان لعلم المصريات إسهامات غير مسبوقة في فهم هذه الحضارة بشكل أوضح وأدق، فإن عاد بك الزمن إلى ما قبل القرن الثامن عشر الميلادي لما وجدت من يهتم بهذه الحضارة.. لم تكن لتجد هؤلاء العلماء وهم يبحثون بلا كلل عن أي شيء، أي معلومة، أي ذكر قد يضيف إلى عقولنا فهمًا أعلى لتلك الحضارة.. أما الآن، فنحن نعلم كثيرًا -وليس بكفاية- عن تلك الحضارة.. نعلم عن آدابها، وتاريخها، وثقافتها، وعمرانها، وحتى آلهتها.. تلك الآلهة وما وراءها من قصص ألهمت الكثير من صناع المحتوى للربط بينهم وبين حياتنا الحالية، في القرن الواحد والعشرين، مع سرعة الحياة وصعوبة مواكبتها، مع سيادة البشر على الكوكب وما آل إليه ذلك من كوارث وحروب، فالطبيعة تعاقبنا على تدميرنا لها، ونكران جميلها علينا، وتمردنا على هباتها التي منحتنا إياها من آلاف السنين، فهؤلاء -صناع المحتوى- بحثوا عن القيم وراء الحضارة المصرية، فجلبوها، واحتضنوها، وعقدوا العزم على إيصالها لنا نحن أبناء الجيل الحالي.
أما عن الآلهة المصرية القديمة فكانت خير دليل على طريقة تفكير المصري القديم، فقد كان يمتلك قيمًا لا نمتلكها في وقتنا الحالي.. احترم الطبيعة واعترف بفضلها، واحترم المرأة، المرأة التي نجدها الآن في هذا الزمان تحارب من أجل أن تحصل على حقوقها البديهية، تسعى للوصول فقط لحياة كريمة، فتعامل بمهانة، وتباع كسلعة أو كداجن للاستفادة والانتفاع منها، ترى في أعين من يقيدوها اقتناعًا تامًا بعدم أحقيتها في نيل ما يناله الجنس الآخر، فكما كان وأدها أمرًا طبيعيًا في العصر الجاهلي قبل الإسلام في شبه الجزيرة العربية، يحدث الأمر ذاته في القرن الحادي والعشرين، الاختلاف فقط أنها لا تقتل جسديًا، بل تقتل فكريًا.. تقتل على يد من يحاول قمعها دون أي وجه حق.. تدفن طموحاتها، وأفكارها، وأحلامها، وآرائها، ومعتقداتها، وروحها، وشغفها، تحت التراب بلا رجعة، أو هذا ما يسعون إلى تحقيقه، جنس حاكم وآخر محكوم!.. فلا يرون احتمالية تعايش الرجل والمرأة معًا بنفس الحقوق والواجبات، لا يرون ما يمكن لها أن تحققه.. هم فقط يرون القوامة، القوامة بمفهومها الخاطئ أصبحت كل شيء!
إن الربط بين المرأة والحضارة المصرية القديمة ليس وليد العهد، فلا أقدمه لكم اليوم على أنه خلاصة تحليل وتعمق طويل، بل أنه واضح كوضوح الشمس عند تعامدها على وجه رمسيس في معبد أبو سمبل، فإن النظر، ومجرد النظر السريع إلى الحضارة المصرية القديمة يلفت أنظارنا إلى حقيقة احترام تلك الحضارة للمرأة وتقديسها، فنرى عيد وفاء النيل (والذي يشاع عنه ما هو غير صحيح تقديم المرأة إلى النيل كأضحية)، ونرى ملكات حكمن أحد أعظم الممالك في التاريخ.
حتشبسوت، ابنه الأسرة الثامنة عشر، ابنه الملك تحتمس الأول، وزوجة تحتمس الثاني، حكمت لمدة 22 عامًا شهدت فيهم مصر تطورًا ملحوظًا في الأمور الدنيوية والروحانية في البلاد، فقد كانت السمة السائدة في عصرها هي السلام، السلام الذي حل على جميع فئات المجتمع المصري القديم، السلام الذي فتح أبواب التجارة مع البلاد المجاورة مثل بلاد شعب الصومال القديم (بلاد البنط)، السلام الذي ساهم في زيادة قوة الجيش وزيادة جاهزيته، الذي ساهم في فتح المناجم والمحاجر مرة أخرى للعمل بعد أن توقفت لسنين، والذي ربط بين البحر الأحمر ونهر النيل، والذي بني به معبد الكرنك أحد أشهر أبنية مصر القديمة.
نفرتيتي، أحد أقوى نساء مصر على الإطلاق، فبعد وفاة زوجها أخناتون، قامت بتولي مقاليد الحكم بشكل غير رسمي عندما كانت تساعد الملك الشهير توت عنخ آمون في إدارة ملكه، فقد لعبت مع توت عنخ آمون دور الأم الراعية، التي يتم اللجوء إليها دائمًا لتقديم النصح وإدارة الموقف حين تأزمه، ولعبت مع زوجها أخناتون قبل وفاته دور الزوجة القوية المناضلة المساندة لزوجها، فهي التي وقفت بجانبه وتبنت الديانة التي نادى بها، وواجهت تبعات ذلك معه ضد كهنة آمون، ولم ينكر أخناتون فضلها عليه أبدًا، فكان من المفترض أن يمنح الإله آتون بركته على رعاياه حين اتحاد أخناتون مع نفرتيتي، كما كانت تعاونه في حكمه للبلاد دون طمع في الزعامة أو تفرد بالقرار، فقط كانت تقوم بما عليها القيام به، فذكرها التاريخ وظل يذكرها.
ايزيس أسطورة الحب الخالدة
هنالك من الأمثلة العديد والعديد، ولكنهن لن يضاهين رغم تأديتهن لواجباتهن ما فعلته الإلهة إيزيس في الميثولوجيا أو الأسطورة المصرية الشهيرة “إيزيس وأوزيريس“.
إيزيس.. لم تعلم الحضارات الأخرى عنها أي شيء في البداية، فبدت أحد الآلهة الغامضة والمجهولة، فلم يكن لها تلك المعابد الكثيرة التي وجدت للعديد من ملوك مصر القديمة، لكن مع تقدم الأسر الحاكمة المصرية ونضوج الحضارة المصرية أكثر وأكثر، بدت إيزيس أحد أهم الآلهة، ليس في مصر القديمة فقط، بل في العديد من الحضارات الأخرى، فقد تم نقلها ونقل حكايتها من قبل الرومان فوصلت إلى أوروبا، لتصبح أحد الآلهة المهمين في الديانة الرومانية، فكانت تعبد من أقصى غرب أوروبا عند بحر الشمال، إلى أقصى الشرق مع حدود الصين، بل وحتى ما زال يتم النظر إليها بوقار وتقدير من الوثنيين المعاصرين.
لا يوجد ما يشير إلى إيزيس قبل الأسرة المصرية الخامسة، والتي حكمت من سنة 2465 قبل الميلاد إلى سنة 2325 قبل الميلاد، ولكنها قد ذكرت في نصوص الأهرام أكثر من مرة، وتلك النصوص التي كتبت فيما بين عام 2300 قبل الميلاد وعام 2100 قبل الميلاد.
إيزيس كانت أحد آلهة الحياة الأخرى، فكانت الإلهة التي يتم الدعاء لها في الطقوس المرتبطة بالموتى، فهي حداد لكل المتوفين من رعاياها، وتعالج المرضى وتعيد الحياة لمن توفى، دائمًا ما كانت تصور إيزيس على أنها امرأة شديدة الجمال، ترتدى فستانًا ضيقًا وعلى رأسها تاج بعلامة العرش أو قرص الشمس أو حتى قرني بقرة، وكان يرمز لها بالطائر والعقرب أو البقرة أو الخنزير، فكان لكل من تلك الرموز دلالاتها المحددة والتي جعلت كل رمز منهم يمثل جزءًا منها.
أسطورة إيزيس وأوزيريس
إن أسطورة إيزيس وأوزيريس هي أحد أشهر أساطير العالم القديم، والأسطورة الأدق تفصيلًا للقدماء المصريين، فتحكي أنه في الأيام التي سبقت مغادرة رع لأرض مصر متجهًا إلى السماء، وقبل أن يشيخ، أخبرته حكمته العظيمة بأن الإلهة نوت إذا أنجبت أطفالًا فسوف يقوم أحد أبنائها بالانقلاب عليه وسيقتلون بعضهم البعض رغبة في السيطرة وستقوم حربًا بينهم، فألقى رع لعنته على نوت بألا تتمكن من الإنجاب في أي يوم من أيام السنة.
امتلأ قلب نوت بالحزن لعدم قدرتها على الإنجاب فطلبت المساعدة من إله الحكمة والسحر والتعلم الإله تحوت، فتحوت هو ابن رع، وكان يعشق نوت، فلم يرفض تحوت طلبها، فقد علم أنها قد لعنت من قبل رع بمجرد ما أخبرته، لكن بالنظر إلى ذكاء تحوت وجدت طريقة للتلاعب باللعنة التي أطلقها رع على نوت.
انطلق تحوت إلى خينسو إله القمر، وواجهه وتحداه في أحد ألعاب الذكاء، فانتصر تحوت في كل مباراة كانوا يلعبونها، وكان خينسو يقاوم مباراة بعد أخرى، ولكنه لم يستطع الانتصار على تحوت لشدة ذكاء الأخير، فرضى خينسو بالأمر الواقع بعدما خسر بعضًا من نوره جراء هزيمته، فجمع تحوت النور الواقع من خينسو على ثلاث مرات وشكله وكون منه خمسة أيام أضافهم للسنة، فكانت السنة وقتها تتكون من 360 يوم فقط، فأصبحت بعد أضافة تحوت لتلك الأيام الخمسة 365 يومًا، لتكون تلك الأيام الخمسة إضافية على أيام السنة ولا تحسب منها.
في اليوم الأول من تلك الأيام الخمس ولد أوزيريس ابن نوت الأكبر، وفي اليوم الثاني كان مولد حورس، واليوم الثالث كان يوم ميلاد ست سيد الشر، وفي اليوم الربع ولدت إيزيس، وفي اليوم الخامس والأخير نفتيس الأخت، وبهذا الطريقة تحطمت لعنة رع التي أطلقها على نوت، فلا تنتمي تلك الأيام الخمس إلى أي يوم من أيام السنة.
عندما ولد أوزيريس شوهدت العديد من الظواهر والعلامات والتي وصلت إلى كل كائن حي على وجه البسيطة، كان أبرزها ذلك الصوت الذي أتى من المزار الأكثر قدسية في معبد كوش، صوت كان يتحدث إلى رجل يدعى باميلس ويطلب منه أن يعلن للجميع بأن أوزيريس هو المالك الصالح القدير، الذي ولد ليجلب الفرح والسعادة لأرض مصر، فقام باميلس بفعل ما طلب منه، كما اعتنى بأوزيريس ورعاه حتى كبر وتزوج من أخته إيزيس، وهو الأمر الذي كان طبيعيًا بين الحكام في مصر القديمة، أما عن ست فقد تزوج من نفتيس أخته الصغرى.
ساعدت إيزيس زوجها أوزيريس طوال حياتها، فكانت أول مظاهر ذلك عندما علمت إيزيس الاسم السري للإله رع عن طريق مهارتها وحرفتها الغير مسبوقة، فحين فعلت ذلك فتحت الباب لأوزيريس ليكون حاكم مصر كما كان يفعل رع، ولكنه قد فزع مما رآه، فقد وجد الناس يتصفون بالوحشية، فيقتلون ويأكلون بعضهم، لكن مرة أخرى تجد إيزيس حلًا لذلك، فتكتشف حبوب الشعير والقمح، وتجعلها تنمو فوق الأرض مع العديد من النباتات الأخرى، كما علم أوزيريس بني البشر كيفية زراعة تلك الحبوب وكيف تطع الذرة وهي تنضج، وكيف يتم تجفيفها وطحنها وخبزها.
بعد أن تعلم سكان مصر كيفية صنع الخبز وتحضير اللحم من الحيوانات التي أجاز أوزيريس أكلها، اتجه أوزيريس لتعليمهم القوانين والحقوق والواجبات، وكيف يمكنهم العيش بسلام دون المقاتلة فيما بينهم، وعلمهم الموسيقى والشعر، فامتلأت بذلك أرض مصر بالسلام والخير، وبعد ذلك اتجه أوزيريس للشعوب الأخرى ليعلمهم ما علمه لشعب مصر ويحيطهم ببركته، وقد ولى أمور الحكم في مصر إلى زوجته إيزيس.
كان النجاح الذي يحققه أوزيريس وزوجته إيزيس دافعًا لغضب شقيقهما الإله ست، الذي ظل يحسد أوزيريس على ما هو عليه، وظل يكره إيزيس على مساندتها لزوجها، فكلما أحبهم الناس أكثر كلما زاد كرهه وبغضه، وكلما نشر الخير أكثر والسعادة، زادت رغبة ست في قتله والحكم بدلًا منه، ولكن بالرغم من كل ذلك، لم تكن إيزيس غافلة عما يطمح إليه ست، بل كانت مدركة تمامًا لما يدور في كعقله، فلم يتمكن ست من استغلال غياب أوزيريس والسيطرة على الحكم في وجود إيزيس.
عندما عاد أوزيريس من سفره رحب به الجميع، وكان أولهم ست، فركع له تقديسًا بادئًا في خطته للقضاء عليه وعلى إيزيس معًا، وذلك بمساعدة 72 من أتباعه، فتمكن ست في السر من معرفة القياسات الدقيقة لجسم أوزيريس، وقام بصنع صندوق ذو شكل براق يتناسب مع قياسات جسم أوزيريس فقط، صنع الصندوق من أندر أنواع الأخشاب وأكثرها تكلفة، فقام بصنعه من خشب الأرز من بلاش شرق البحر المتوسط، وخشب الأبنوس من بلاد بنط في القرن الأفريقي، ثم أقام وليمة ضخمة تكريمًا لأوزيريس لمجهوداته العظيمة في حكم الدولة، وكان جميع الضيوف هم أتباع ست، فكانت الوليمة الأعظم في تاريخ مصر.. الأطعمة المنتقاة والنبيذ القوي والراقصات الأجمل على الإطلاق.
امتلأ قلب أوزيريس فرحًا بما قدمه له أخاه من ولائم واحتفال، فكان غافلًا عما يحاول ست فعله، وعندما أحضر ست الصندوق اندهش أوزيريس من جماله، وتعجب من خشب الأرز النادر المرصع بالعاج والأبنوس والذهب والفضة، وأشكال الطيور والحيوانات وحتى الآلهة المرسومة بداخله، فرغب به بشدة، وحين نادى ست بأنه سيهدي الصندوق لمن يتمكن من دخوله فيكون مناسبًا لحجمه، فبدأ المتآمرون مع ست بدخول الصندوق ظاهريًا لمعرفة إذا كان بإمكانهم الفوز أم لا، لكن لم يكن أي منهم مقاربًا لهيئة أوزيريس فلم يملأ أحدهم الصندوق، فكانوا يحاولون دون جدوى.
هم أوزيريس وأراد دخول الصندوق، ولم يمانع ست لأن هذا ما أراده في البداية، وعندما دخل اوزيريس الصندوق وجد أنه يناسبه تمامًا، ففرح بأنه سينال الصندوق وقال لست أن هذا الصندوق أصبح ملكه، فأيده ست بخبث بأن الصندوق أصبح لأوزيريس، أغلق ست غطاء الصندوق سريعًا وأوزيريس بداخله، فقام المتآمرون بسد جميع الثقوب في الصندوق بالرصاص المنصهر، حتى مات أوزيريس داخل الصندوق.
أخذ ست ورجاله الصندوق وبداخله جسد أوزيريس وألقوه في النيل، وجرف التيار الصندوق ووصل به إلى شواطئ الشام فنمت حوله الزهور ونمت من الصندوق شجرة تطلع على شاطئ البحر، فوجدها أحد الملوك وعجبته فقام بقطعها وتحويلها لعمد كبير في قصره، وكانت رائحة خشبها الجميلة تملأ القصر وكان يتساءل الكل عن جمال ورائحة خشب هذه الشجرة، جاهلين أنها تحل جسد الإله أوزيريس.
أما في مصر، كانت إيزيس في حالة خوف شديد، فقد كانت تعلم أن ست ملئ بالشر والغيرة، فحين قتل ست أوزيريس أحست بذلك، فهربت سريعًا إلى الدلتا حاملة لحورس ابنها معها، وسكنت في ملجأ الإلهة بوتو في جزيرة صغيرة في المستنقعات، وسلمت لها حورس طفلها من أوزيريس، وحتى توفر إيزيس الحماية لابنها اقتلعت الجزيرة من مكانها وجعلتها تطفو في السماء حتى لا يتمكن أحد من رؤيتها.
ذهبت إيزيس للبحث عن جثمان زوجها أوزيريس، لأنه لم ينل ما يستحقه من دفن لائق بالطقوس والشعائر الضرورية، فلم تتمكن روحه من الوصول إلى الملاذ الأخير في أرض الاختبار، دارت إيزيس ذهابًا وإيابًا في أراضي مصر بحثًا عن زوجها، سألت كل من قابلته، لكن لم يرى أحد الصندوق الذي حمل جثة أوزيريس، ولكنها لم تكل ولم تمل فاستمرت في البحث عنه حتى سألت أحد الأطفال الذين يلعبون على ضفاف النهر، فأخبرها بأن الصندوق قد جرى مع مجرى النهر حتى وصل إلى البحر، كما أخربها بالطريق الذي يجب عليها سلوكه حتى تتمكن من اتباع الصندوق، فباركت إيزيس الطفل تكريمًا له، وأصدرت مرسومًا بعد ذلك بقدرة الأطفال على التفوه بالحكمة وقدرتهم على رؤية المستقبل لصفائهم وبعدهم عن الشرور.
بعد البحث الطويل تمكنت إيزيس من الوصول إلى مدينة الملك في الشام، فوجدت وصيفات الملكة عشتروت وهن يتحممن في الماء، فعندما خرجوا قامت بتضفير شعورهن، وهو الأمر الذي كان جديدًا عليهن، فعندما عادوا إلى الملكة أخبروها بأن هنالك امرأة تجلس على شاطئ البحر قامت بتضفير شعورهم، فانتابها الفضول وقامت بطلب مقابلة إيزيس.
عندما وصلت إيزيس إلى قصر عشتروت وقابلتها أول مرة أدركت عشتروت بأن إيزيس ليست امرأة عادية، وعلمت كونها مصرية من شكلها، لكنها لم تتوقع أن تكون هذه المرأة هي الإلهة إيزيس، بل توقعت أنها مجرد سيدة حكيمة كما هو مشهور عن سيدات مصر، لذا فرحبت عشتروت بإيزيس وطلبت منها البقاء في القصر بسبب حالتها المزرية وطلبت من إيزيس أن تحاول تطبيب ابنها ديكتيس الذي كان المرض قد أصابه، والذي كان يبدو أن الموت قريب منه، فبمجرد أن قبلت إيزيس توجه الخدم بديكتيس إلى غرفته، وبالفعل في مجرد أيام استعاد ديكتيس عافيته بسرعة شديدة، مما جعل عشتروت نفسها متعجبة من سرعة شفائه وزاد فضولها حول إيزيس، خاصة أن إيزيس كانت تبعد الخدم عن غرفة ديكتيس كل ليلة، فكان الخدم يسمعون صوت النيران في الغرفة ومن ثم صوت السكون والعصافير.
قررت عشتروت الاختباء داخل غرفة ديكتيس دون أن تعلم إيزيس بوجودها؛ وذلك حتى تعلم ما الذي يحدث داخل الغرفة في الليل، فعندما أتى الليل أخرجت إيزيس كل الخدم من الغرفة وأغلقت الباب، فقامت بإشعال النيران، وعندما اشتد لهيب تلك النيران قامت بإلقاء ديكتيس ابن عشتروت بداخله، ومن ثم تحولت إلى عصفور وجلست تطير بالقرب من العامود الذي يحمل بداخله جثة أوزيريس، وتغرد حدادًا على فقدانه.
كان المنظر مهيبًا لعشتروت، فلم تتمالك نفسها وانطلقت وهي تصرخ ناحية النيران وأخرجت طفلها منها، ولكنها وجدته سليمًا لم يمسسه شيء من النار، رعبت عشتروت وجرت بطفلها لكن قدماها لم تساعداها على ذلك، فنظرت خلفها فوجدت إيزيس تتحول من امرأة عجوز يبدو عليها التعب إلى امرأة طويلة شديدة الجمال، وعلمت حينها عشتروت أنها لا تقف أمام بشرية.. بل أنها تقف أمام إلهة.
عنفت إيزيس عشتروت لتجسسها عليها، وقالت لها بأنها كانت ستجعل ديكتيس إلهًا من الآلهة، أما الآن فهو مجرد بشري كمثل باقي البشر سيحيى حياتهم ويموت مماتهم، وفي ذلك الوقت سمع الملك صوت الصراخ فانطلق إلى غرفة ابنه، ليجد إيزيس بهيئتها الإلهية وافقة أمام زوجته عشتروت وابنه ديكتيس، فركع هو وزوجته إلى إيزيس طالبين منها العفو، ويعرضون عليها الحصول على الثروات التي تريدها مقابل رعايتها لابنهما، لكنها رفضت وقالت أنها لن تستطيع وعرضت عليهما بركاتها إذا قبلوا بإعطائها العامود الخشبي الذي يحتوي على جسد زوجها أوزيريس.
قام الملك سريعًا بإرسال العمال لانتزاع العامود وفتح ما بداخله، فوجدوا أن بداخله صندوق أوزيريس، فأخبرت إيزيس الملك بأن يضع خشب العامود في أكثر معابد مملكته قدسية، وسوف يحج إليه وإلى مملكتها لسنوات طويلة، فإن هذا الخشب قد احتوى يومًا ما على جثة الإله أوزيريس، وبالفعل قاموا بذلك وظل هذا المعبد قائمًا لآلاف السنين.
انطلقت إيزيس بالتابوت مع أحد أمراء الملك لمرافقتها في رحلتها رجوعها لمصر، فركبت سفينة كانت في طريقها إلى مصر إلى أن وصلت بالفعل.
اتجهت إيزيس بعد ذلك للجزيرة التي تركت ابنها حورس عليها، فأطلقت الرياح تجاه السفينة وطلبت من البحارة أن يتجهوا مرة أخرى إلى بلادهم وشكرتهم على مساعدتهم، وعندما ذهب الجميع فتحت التابوت فوجدت جثمان زوجها بداخله، فلم تتمالك نفسها وبكت بحرقة عليه، ثم قلبته وأغلقت التابوت مرة أخرى.
وصلت إيزيس للجزيرة والتي عادت تطفو على مياه النيل عندما اقتربت منها إيزيس، فوجدت أن الإلهة بوتو ظلت تحرس ابنها منذ أن تركته إيزيس، فأخذت ابنها وكانت ستهم بالرحيل إلا أنها وجدت ست وأتباعه يقتربون منها، ولكنهم لم يتمكنوا من رؤيتها من بعيد بسبب ظلام الليل، فكان ست قد اعتاد الذهاب للصيد في الليل، وكان من سوء حظ إيزيس أنه مر بالجزيرة التي كانت فيها هي وابنها، فأسرعت إيزيس بالاختباء هي وابنها، وعندما وصل ست للبقعة التي كانت فيها إيزيس وجد تابوت أوزيريس، فاستشاط غضبًا وأخرج جثته من التابوت وأمر رجاله بأن يقطعوه إلى 14 جزءًا، وأن يفرق كل جزء بعيدًا عن الآخر في جميع أنحاء مصر، فقد أدرك أنه لمن الصعب أن يفنى جسد الإله، لذا فعليه أن يفنيه بنفسه وأن يمنع وصوله إلى العالم الآخر تمامًا.
بعد أن رحل ست ورجاله خرجت إيزيس من خلف الأشجار التي اختبأت ورائها، وقامت بإرجاع ابنها حورس إلى الإلهة بوتو من جديد، وعقدت العزم بأن تبحث عن كل جزء قد قطع من زوجها أوزيريس، وأن تجمع الأجزاء مرة أخرى، فقامت بركوب مركبًا من الورق البردي، وبدأت في التجديف بالنهر، وجدت التماسيح وهم حزينون على حالها فتعاطفوا معها ولم يمسوها بضرر لتستكمل سعيها خلف أشلاء أوزيريس، فأصبح من يمر بمركب من ورق البردي في نهر النيل أمام التماسيح يمر بسلام دون مساس التماسيح به تخليدًا لذكراهم مع إيزيس.
تمكنت إيزيس من العثور على أجزاء زوجها واحدًا تلو الآخر، فكانت عندما تجد جزءًا منه تقيم مسلة فوقه سعيًا لتكون عبادة أوزيريس هي العبادة السائدة في البلاد وكي تحمي كل تلك الأجزاء من تدنيس ست لها، وكان أنوبيس ابن ست ونفتيس هو من ساعدها في تشييد تلك المسلات، وقد استمر أنوبيس في مساعدة إيزيس بعد اتخاذه لهيئة كلب بري حتى لا يعرف والده بأمره، تمكنت إيزيس من إقامة 13 مسلة فوق 13 جزء من أجزاء زوجها، ولكنها لم تتمكن من العثور على الجزء الأخير، فقد تم رميه في النيل، وقامت سمكة تسمى بـ(لبدوت) بأكله، فحرم المصريون القدماء بعد ذلك أكلها تقديرًا لأوزيريس وظلت السمكة ملعونة للأبد.
بعد أن انتهت إيزيس من تجميع أشلاء زوجها قامت باستخدام السحر لإعادة جسد زوجها إلى صورته الأولى، وتمكنت بذلك السحر أن تكمل الجزء الناقص الذي قامت السمكة لبدوت بتناوله، وأقامت له مأتم كبير احتفل به أهل مصر، وقام أنوبيس بتحنيط جسد أوزيريس بنفسه، ولذكاء إيزيس علمت أن ست لن يترك جثمان أوزيريس بسلام، لذا فقامت بدفن الجسد الحقيقي في جزيرة فيلة وأوهمت الجميع بما فيهم الكهنة أن الجسد ما زال مقطعًا وأسفل المسلات الثلاثة عشر.
بمجرد أن دفن أوزيريس في جزيرة فيلة اتجهت روحه إلى العالم السفلي أخيرًا، فأصبح ملكًا للموتى في هذا العالم، مجهزًا للوقت المناسب الذي سيتمكن فيه من تكوين جيشه من الموتى الأنقياء والعودة لعالم الأحياء والانتقام من ست واستعادة عرشه وبذلك تكون قد تحققت نبوءة رع بإقامة الحرب بين ست وأوزيريس ومعه حورس.
كانت الإطالة في إيضاح الأسطورة المصرية القديمة إيزيس وأوزيريس مقصودة، ليس لأنها أحد أهم الآلهة المصرية، أو لأنها ذكرت في العديد من القصص والأساطير، بل لأنها تمثل المرأة المصرية بالتمام؛ فعند النظر إلى تلك الأسطورة تحديدًا لن تجدوا بطلها حورس أو أنوبيس أو حتى أوزيريس، فالبطل الحقيقي هي المرأة التي كان يعتقد ست بأنها ضعيفة تمامًا ولا تملك حولًا ولا قوة، وأنه بمجرد أن يتخلص من زوجها فإنه سينتصر، إلا أنه قد وقع في الفخ الذي نقع فيه حتى يومنا هذا، فالمرأة ليست ضعيفة.. ليست ذات قدر قليل من الذكاء ولكم في إيزيس العبرة والأسوة.
لماذا إيزيس؟
إيزيس هي الزوجة التي تمكنت من إدارة ما كان يديره زوجها حين غاب، فأثبتت بأن لها المقدرة على تحمل العبء والمسؤولية..
إيزيس هي الأم الحنون التي أنقذت ابنها من بطش عمه وأبقته آمنًا في وقت كان من المستحيل أن يأمن فيه..
إيزيس هي السيدة التي رأت في الأطفال ما لا نراه، فرأت الصلاح فيهم ونقاء القلب وعدم الخوف من إخبارها أين ذهب تابوت زوجها، فصرحت بقدرتهم على رؤية الخير..
إيزيس هي الشغوفة التي لم تفقد الأمل في إيجاد زوجها بالرغم من أنها سافرت البلاد وبالرغم من مرور السنوات..
إيزيس هي الفطينة التي علمت كيف تدخل إلى قصر الملك وكيف تساوم من أجل تابوت زوجها..
إيزيس هي التي لا تنكر الجميل فساعدت السفينة التي أتت بها إلى مصر في الإقلاع مرة أخرى برياحها وشكرتهم على مساندتها..
إيزيس هي سريعة البديهة التي أدركت أولوية الحفاظ على ابنها من عمه فاختبأت به خلف الأشجار وأنقذته من موت محتوم..
إيزيس الصبورة التي لم تفقد الأمل بعد أن مزق جثمان زوجها وسعت من جديد لإيجاده.
إيزيس هي سيدة عائلتها التي أقنعت ابن اخاها بأن يخالف أباه وأن ينصر الحق.
إيزيس هي السبب الحقيقي في ذهاب روح زوجها إلى الحياة الأخرى وحشده للجيوش للانتصار على الشر.
إيزيس هي الزوجة، هي الأم، هي العائلة والأهل، هي الفطنة، وذات النفس الزكية.. هي التي تخاطر من أجل أحبائها، هي أول من يتصدر في وقت الشدة، هي الشغوفة التي لا تستسلم.
إيزيس هي المرأة.. والمرأة هي إيزيس، لذا كان الحل الوحيد لنا عند اختيار اسمًا لموقعنا الخاص بالمرأة أن نختار اسم إيزيس، سعيًا منا لأن نوفر ما تحتاجه كل إيزيس في وطننا.