رباعيات صلاح جاهين عن الموت
رباعيات صلاح جاهين عن الموت هي الوجه الآخر من مرح العبقري، فيظن البعض أن صلاح جاهين هو شاعر الفرح فقط المعبر عن السعادة الدائمة المقبل على الحياة أيًا كانت الظروف، ولكن كانت هناك رباعيات لجاهين يغلب عليها طابع الحزن.
رباعيات صلاح جاهين عن الموت
تعرض صلاح جاهين لمرارة الفقد على مدار حياته الطويلة، لهذا توجد رباعيات صلاح جاهين عن الموت مُتمثلة في عدة أمثلة، فهي أشار إلى ذلك الغريب بمعاني واضحة وتعبيرات قاسية تُعبر عن تأثيره.
“ضريح رخام فيه السعيد اندفن.
حفرة فيها الشريد من غير كفن.
مريت عليهم، قلت يا العجب.
الاثنين ريحتهم لها نفس العفن”.
يصور صلاح جاهين حقيقة الموت التي يتشابه بها الجميع، فطريقة الدفن واحدة والتحلل واحد مهما كان الاختلاف بين المتوفين في حياتهم.
“في يوم صحيت شاعر براحة وصفا.
الهم زال والحزن راح واختفى.
خدني العجب وسألت روحي سؤال!
أنا مُت ولا وصلت للفلسفة؟”.
تلك الرباعية هي نظرة فلسفية تجريدية للموت، صلاح جاهين يعتبر أن الموت في ماهيته هو الوصول لجوهر فلسفة الدنيا وواقعها، فتلك الرباعية ليست واصفة للحال، بل هي مُسببة للتفكير والتأمل حو حقيقة الموت.
“السم لو كان في الدوا منين يضر!
الموت لو عدونا منين يسر!
حط القلم في الحبر وأكتب كمان.
العبد للشهوات منين هو حر؟”.
يظهر في رباعيات صلاح جاهين عن الموت سؤال راوده لفترة كبيرة هو كيف أن يكون الموت هو عدو الإنسان؟ حيث رأى خلال حياته أن الموت على المستوى الديني هو لقاء العبد بربه، وعلى المستوى الإنساني هو التخلص من الحياة الشقية وقيود الجسد والخروج للتحرر والخلود.
“أيوب رماه البين بكل العِبر.
سبع سنين مرضان وعنده شلل.
الصبر طيب! صبر أيوب شفاه.
بس الأكاده مات بفعل الملل!”.
جاهين في تلك الرباعية يوضح أن ليس السبب الوحيد للموت هو المرض، بل يمكن أن يتسبب الملل في موت المرء وانقضاء أجله، فالحياة ذات الوقع الرتيب تبعث بصاحبها للجنون.
“دخل الشتا وقفل البيبان عَ البيوت.
وجعل شعاع الشمس خيط عنكبوت.
حاجات كتير بتموت في ليل الشتا.
لكن حاجات أكتر بترفض تموت”.
يوضح جاهين في تلك الرباعية أنه بالرغم من أن الموت مُحقق في الدنيا إلا أن هناك العديد من الأوقات التي يقاوم فيها الإنسان تلك الحقيقية، كما يوضح أن الموت قد يصيب الإنسان في مشاعره وأفكاره التي يمكن أن تأبى الموت هي أيضًا.
اقرأ أيضًا: روايات إحسان عبد القدوس الرومانسية
رباعيات صلاح جاهين الحزينة
لا يقتصر حزن صلاح جاهين في رباعيات صلاح جاهين عن الموت فقط، بل هو أدلى بالعديد مما يعبرون عن حزنه الدفين إثر أمور عِدة، فكان يسرد ذلك بطرق مُميزة تلامس وجدان القارئ.
“أنا شاب لكن عمري ولا 1000 عام.
وحيد لكن ما بين ضلوعي زحام.
خايف! ولكن خوفي مني انا.
أخرس ولكن قلبي مليان كلام”.
تلك الرباعية توضح أن الحزن يصيب الشباب، يمكن للحزن أن يصيب قلب أي بشر، فالحزن وما يسببه من وحدة يكون أساسها هو الكتمان وعدم البوح عن الألم الذي عبر جاهين في رباعيات أخرى عديدة.
“يا باب أيا مقفول! امتي الدخول؟
صبرت ياما واللي يصبر ينول.
دقيت سنين والرد يرجعلي مين.
لو كنت عارف من أنا كنت أقول!”.
تلك الرباعية هي تعبير صارخ عن فقدان الهوية وعدم معرفة الشخص لنفسه وطبيعتها، فقدان الهوية هو الأزمة التي تسبب الحزن والكآبة الشديدة بقلب الإنسان والتي عانى منها جاهين في بعض فترات حياته.
سهير ليالي وياما لفيت وطوفت.
وفي ليلة راجع في الضلام قومت شوفت!
الخوف! كأنه كلب سد الطريق.
وكنت عايز أقتله بس خوفت”.
عجز الإنسان عن القضاء على حزنه من أكبر الأزمات التي يمكن أن تضيع حياة المرء من يده دون مقدرة منه على إنقاذها.
“قالوا الشقيق بيمص دم الشقيق.
والناس مهياش ناس بحق وحقيق.
قلبي رميته وجبت غيره حجرة.
داب الحجر ورجعت قلبي رقيق”.
سيطر الحزن على جاهين بسبب تغير حال الحياة التي عاصرها في الماضي، فقد رأى الكره الناشئ بين المُقربين، فقدت البشر هويتها وقيمها الإنسانية، حتى أن جاهين حاول التخلص من رقة قلبه ظنًا منه أنها هي السبب في الأزمة، ولكن بدون فائدة، فالأزمة لم تكن في قلب جاهين بل كان في قلوب البشر.
“يا قرص شمس ملوهش قبة سما.
يا ورد من غير أرض شب ونما.
يا أي معني جميل سمعنا عليه.
الخلق ليه عايشين حياة مؤلمة؟”.
يعبر جاهين في تلك الرباعية عن استيائه الشديد بسبب تدهور الحياة وحال البشر فيها، فهو يرى الجميع في حالة من الألم والحزن، حتى أنه يسأل جميع القيم الجمالية التي نشأت في ظروف شبه مستحيلة، ولكن تلك القيم نفسها لا تجد الرد.
“أعرف عيون هي الجمال والحسن.
واعرف عيون تاخد العيون بالحضن.
وعيون مخفية وقاسية، وعيون كتير.
بحس فيهم كلهم بالحزن!”.
عيون البشر هي نافذة إلى أرواحهم، وصف جاهين في رباعيته تلك حال العيون المحيطة بها التي يراها جميعها مُخيمة عليها الحزن والكآبة، بالرغم من جمالها وروعتها واحتوائها على حنان جم.
“يا حزين يا قمقم تحت بحر الضياع.
حزين انا زيك واية مستطاع
الحزن مبقالهوش جلال يا جدع.
الحزن زي البرد زي الصداع!”.
بسبب كثرة الحزن في الدنيا والعصر الحالي لم يصبح للحزن أي جلال، فمن كثرة انتشاره أصبح مثل الأمراض المُتعرف عليها مثل الصداع، هذا الذي عبر عنه صلاح جاهين في رباعية ممزوجة بالسخرية والحزن.
“ايش تطلبي يا نفس فوق كل ده؟
حظك بيضحك وانتي متنكدة!
ردت قالتلي النفس: قول للبشر
مايبصوليش بعيون حزينة كده”.
حزن المحيطين بالإنسان في بيئته الاجتماعية القريبة يمكن أن يجعل الحزن يتمكن منه، حتى وإن كان معه العديد مما يطلبه ويرجوه، وعبر جاهين عن هذا في رباعيته المتعجبة التي يخاطب بها نفسه.
“على بُعد مليون ميل من أرضنا.
من الفراغ الكوني بصيت أنا.
لا شوفت فرق بين جبال وبحور!
ولا شوفت فرق بين عذاب أو هنا!”.
بسبب انتشار الحزن والألم لم يعد جاهين قادرًا على التفرقة بين العذاب ورغد العيش ونظم هذا الشعور في سطور الرباعية الموضحة.
“أنا قلب كورة والفراودة أكم.
ياما اتنطح واتشاط وياما اتعكم.
واقوله كله هينتهي في المعاد.
يقول بساعتك ولا بساعة الحكم؟”.
يعبر جاهين عن الألم الذي أصاب قلبه طوال حياته بسبب المواقف التي تعرض طوال حياته من الأشخاص المحيطين به، وعبر عن هذا الألم في رباعية يتساءل فيها قلبه متى سينتهي هذا الألم الذي لحق به ولكن كان السؤال دون إجابه مرضية أو حقيقية.
“يا خالق الكون بالحساب والجبر.
وخالقني ماشي بالاختيار والجبر.
كل اللي حيلتي زمزمية أمل.
ازاي تكفيني لباب القبر!”.
يطلب جاهين من الله أن يبعث له الرد عن كيفية بقائها في هذه الدنيا ببصيص الأمل البسيط الذي لا يكفي إنسان محاط بهذا القدر من الحزن..
اقرأ أيضًا: رباعيات صلاح جاهين عن الدنيا
رباعيات صلاح جاهين عن الهزيمة
بالرغم من العديد من الرباعيات المعبرة عن الحزن السالف ذكرها إلا ان أقوى رباعيات صلاح جاهين المعبرة عن الألم هي قصيدته التي كتبها بعد تعرض مصر لنكسة 1956.
“وقف الشريط في وضع ثابت، دلوقتي نقدر نفحص المنظر.
مفيش ولا تفصيلة غابت، كل شيء بيقول وبيعبر
من غير كلام ولا صوت، أول ما ضغط الموت على زر في الملكوت
بخفة وبجبروت في يوم أخبر، وقف الشريط في وضع ثابت”.
يبدأ جاهين في رسم صور عن مشهد ساحة الحرب التي كل شيء بها يعبر عن الحدث وألمه دون كلمات، فقط الهدوء التالي لانقضاء الأمر ووقوع الهزيمة.. في يوم صعب لا ينسي في تاريخ مصر الحديث.
“دلوقتي نقدر نفحص الصورة
أنظر تلاقي الراية منشورة
متمزعة لكن مازالت فوق
بتصارع الريح اللي مسعورة”.
يصور جاهين مشهد الراية المصرية المتضررة بسبب الهزيمة البالغة التي لحقت بها، ولكن كعادة الراية وشعبها تقف في وجه رياح الهزيمة دون يأس أو كلل.
“أنظر تلاقي البلاد أجيال ورا أجيال رفعاها باستبسال
ونزيف دِما سيال عَ الجبهة
وفي عنفوان النضال
وقف الشريط في وضع ثابت”.
يكمل جاهين صورته عن الراية وشعبها بأن تلك الراية لا يتنازل عنها أبنائها، فهم الصامدين ببسالة رغم توقف الحرب فجأة بعد سماع دوي الهزيمة.
“خلي المكانجي يرجع المشهد
عايز أشوف نفسي زمان وأنا شاب
داخل في رَهق الثورة وأنا غضبان
ومش عاجبني جني أو إنسان”.
يتذكر جاهين فترة شبابه التي تعتبر هي المهرب من الهزيمة والشعور بها، فالشباب والعودة إليه تخلق نوع من الغضب الذي يجعل الإنسان قادر على رؤية الأمل الضعيف في النجاح مرة أخري والانتصار.
“قال الماكنجي رجوع مفيش
عيش! طول ما فيك أنفاس تعيش
بص شوف! ركن الشباب فيه ألف مليون شاب
مش عاجبهم لا وصي ولا أب
أنظر إليهم وأنت تتذكر، ليه ضربة صابت
وضربة خابت، وضربة وقفت بالشريط في وضع ثابت”.
العودة لمرحلة الشباب هي الأمر المستحيل، صاغ جاهين هذا المعني موضحًا يأسه أن أنفاسه الباقية في الحياة تجبره فقط على البقاء، فالشباب الأن والأخطاء التي وقعوا بها ذكرت جاهين بأسباب الهزيمة الحقيقة وأسباب الانتصار البائد.
“أنظر وشوف عَ المهل بالراحة
الشمس وسط القبة قداحة
والقدس واقعة والحرام منداس
صوت الجرس والأدان على قلبها حراس
ادي بطلها هَل في الساحة
قلب الحجر في الإيد بيغلي حماس”.
ينظر جاهين لمشهد الهزيمة الكامل بعد سقوط بلاد العرب الغالية في قبضة المحتل، ولكن في خلفية المشهد يظهر تكاتف الشعوب التي تصون بلدها بالصلوات دون الاكتراث بماهية الدين أو العرق، وكان هذا التكاتف هو بداية ظهور الأمل.
“قال المكانجي بلوم وأنا مكلوم
قال الماكنجي والشريط شغال
مالكش تسأل سؤال.
أنظر وشوف الحق لما إنهان
وأنظر وشوف الأن!
بكرا بقي امبارح في حضن زمان
وبعد بكرة فوق همومك فات
مفيش شريط مأجور ولا خوان
ولا شريط له ثبات”.
يعبر جاهين في تلك الصورة عن الحقائق التي تم اخفائها، ويوضح أن التاريخ ليس بخائن أو مدلس بل هم الأشخاص، فإهانة الحق والهزيمة ليست من الأمور السهلة التي يمكن إغفال أسبابها الحقيقية.
صلاح جاهين هو دائمًا الشاعر القادر على إيصال كافة المشاعر للمتلقي بالرغم من قوتها وعمق حزنها بألفاظ بسيطة، صلاح جاهين هو المبدع الذي لن يتكرر في تاريخ مصر القريب.
تابعنا على جوجل نيوز